سيدي مالك بن دينار

محمد الناصري المكي8 سبتمبر 2019آخر تحديث :
سيدي مالك بن دينار

على قلوب العارفين تتنزل النفحات الالهية لتضيء ساحتها بالأنوار الربانية، وتجذبها الى حضرة المولى عز وجل، فيظل العارف مستهلكا في بحار التحقيق فانيا في الله قائما به. عاش رضي الله عنه في القرنين الاولين للإسلام حيث لا يزال عبير النبوة متضوعا في الارجاء، لقرب العهد بإشراق شمس النبوة ، فلقي من لقي سيد الخلق سيدنا محمدا صلى الله عليه و اله و صحبه وسلم تسليما كثيرا، واستمد من نوره المدد المحمدي فتمثلت فيه المقولة المأثورة ( اذا رأيت من رأى فقد رأيت )
من افذاذ اولئك الائمة الاخيار والصوفية الابرار قطب سماء العرفان وولي افنى ذاته في محبة الرحمن .
انه الامام العابد والصوفي الزاهد والرباني الساجد , صاحب الامداد والنور : سيدي ابو يحيى مالك بن دينار رحمه الله ورضي عنه وعنا به اكراما لجنابه الشريف. علم من اعلام الصوفية الواصلين وامام تفرد في زهده وإخباته وتبتله وانقطاعه لمولاه، فكانت حكمته غذاء القلوب وسلوكه ضياء النفوس ومنهاجه اقتفاء الاثر المحمدي المنير.

يذكر صاحب وفيات الاعيان انه من موالي بني اسامة بن لؤي القرشي كان عالما زاهدا كثير الورع قنوعا لا يأكل الا من كسبه وكان يكتب المصاحف بالأجرة.) وذكر ابن خلكان ان سيدي مالكا قد توفي بالبصرة سنة احدى وثلاثين ومائة هجرية.
أدرك من الصحابة سيدنا انس بن مالك رحمه الله واسند عنه عدة أحاديث روى الامام ابو نعيم طرفا منها في الحلية وذكر انه روى ايضا عن التابعين، عن الحسن وابن سيرين والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وغيرهم.
أخرج له البخاري في صحيحه واخرج له الامام أحمد وروى عنه الثقات من المحدثين.

يروي الامام المناوي رحمه الله في طبقاته عن ابن الجوزي انه قال في كتاب التوابين: إن سيدي مالكا كان اولا شرطيا وانه سئل عن سبب توبته، فقال: اشتريت جارية فوقعت مني أحسن موقع وولدت مني بنتا فشغفت بها، فلما دبت على الارض ازدادت من قلبي حبا، والفتني والفتها فلما تم لها سنتان ماتت. فلما كان ليلة نصف شعبان وكانت ليلة جمعة – رأيت في منامي ان القيامة قامت ونفخ في الصور وحشر الخلائق وأنا معهم، فسمعت حسا فالتفت فاذا انا بتنين عظيم اسود ازرق فتح فاه مسرعا نحوي فمررت بين يديه جاريا مرعوبا، فمررت بطريقي بشيخ نقي الثوب طيب الرائحة فسلمت عليه فرد علي السلام فقلت: أجرني من هذا التنين أجارك الله، فبكى وقال: أنا ضعيف وهذا اقوى مني مر واسرع لعل الله ان يقيض لك من ينجيك منه فوليت هاربا على وجهي فصعدت على شرف القيامة فأشرفت على طبقات النيران فكدت اهوي فيها من فزعي فصاح صائح: ارجع فلست من اهلها. فاطمأننت لقوله ورجعت ورجع التنين في طلبي فأتيت الشيخ فقلت: سالتك ان تجيرني من هذا التنين فلم تفعل، فبكى وقال: انا ضعيف ولكن سر الى هذا الجبل فان فيه ودائع المسلمين فان كان لك فيه وديعة فتنصرك، فنظرت الى جبل مستدير من فضة فيه طاقات مخرقة وستور معلقة على كل طاقة مصراعان من ذهب احمر على كل مصراع ستر من حرير فلما نظرت اليه هرولت والتنين من ورائي حتى اذا اقتربت منه صاح بعض الملائكة : ارفعوا الستور وافتحوا المصارع فاشرفوا على فرأيت اطفالا  كالأقمار وقرب التنين مني فحرت في امري فصاح بعض الاطفال: ويحكم اشرفوا كلكم فقد قرب منه عدوه .
فاشرفوا فوجا بعد فوج فاذا انا بابنتي التي ماتت فنطرت الي وقالت : ابي والله ثم وثبت في كفة من نور كرمية السهم حتى صارت عندي ومدت يدها الشمال الى يدي اليمين فتعلقت بها ومدت يدها اليمين الى التنين فولى هاربا ثم أجلستني وقعدت في حجري وضربت يدها اليمنى الى لحيتي وقالت يا ابت( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) الحديد – الاية 16 فبكيت وقلت: وانتم تعرفون القرآن؟ قالت: نحن اعرف به منكم  .قلت: فأخبريني عن التنين الذي اراد ان يهلكني؟ قالت: ذاك عملك السيء قويته فاراد اغراقك في نار الجحيم . قلت : فالشيخ ؟قالت : عملك الصالح اضعفته حتى لم يكن له طاقة بعملك السيء .
فقلت : يا بنية : ما تفعلون في هذا الجبل؟ قالت: اطفال المسلمين أسكنوا فيه الى قيام الساعة ننتظركم تقدمون علينا فنشفع لكم قال مالك رحمه الله: فانتبهت فزعا مرعوبا فكسرت الات المخالفة، وعقدت مع الله عز وجل توبة نصوحا فتاب علي سبحانه.
وكانت البداية النورانية وبدأ التحول الروحي يأخذ مجراه على اثر هذا النداء الالهي الذي سيقت من اجله تلك الواقعة : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ)  الحديد – الاية 16 ان الولاية لله تعالى لا بد ان ترتكز على دعامتين راسختين هما : الايمان بالله وتقوى الله ومقياس هذه التقوى هو خشوع القلب لذكر الله , لقد كان قلب سيدي مالك عامرا بالإيمان ومهيأ لإشراق نور التقوى .
وذاق سيدي مالك منذ ذلك الحين حلاوة العبودية لله وتألم على ما مضى من العمر سدى ولكن العناية ادخرت ما هو فوق مطمح الآمال فجاءه الفتح الالهي وصعد الى علياء منازل الابرار والمقربين .
واذا ما تساءلنا عن الجانب السلوكي عند العارف ابن دينار لوقفنا على قمة قلما تجد نظيرا لها في الامة . فلقد رفع لواء الجهاد الاكبر- جهاد النفس- وشهر سيف المجاهدة على نفسه في طاعة الله فسمعه احد اصحابه وهو يقول :   يقولون الجهاد انا من نفسي في جهاد . وسمعه اخر يقول :   قال رجل من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أ رأيتم نفسا ان انا اكرمتها ونعمتها وفتقتها ذمتني غدا قدام الله وان انا اتعبتها وارهقتها وانصبتها مدحتني غدا قدام الله – يعني نفسه . والجهاد الروحي طريق طويل لا ينتهي حتى تضمحل النفس وتصفو من ادرانها وشوائبها، ولما كان حب الدنيا هو السم الزعاف الذي يطفئ نورانية الروح فقد غالب سيدي مالك نفسه بالزهد في الدنيا وبلغ في ذلك شأوا لا يدرك، فما كان يتقوت الا من عمله في حرفتين هما كتابة المصاحف – وهي مع كونها حرفة عبادة – وعمل الخوص. وكان يكتب المصحف في اربعة أشهر وكان مجموع ما يتكسبه من حرفتيه لا يعدو درهمين، فقد روى ابو نعيم عن محمد بن عمرو بن كريب قال: ما كان لمالك بن دينار من الدنيا الا درهمان: درهم لورقه ودرهم ليشتري به خوصا يعمل به.

 يروي صاحب الحلية: كان أدم مالك بن دينار كل سنة ملحا بفلسين، واما عن متاع بيته، فيقول سيدي عبد الوهاب الشعراني: وكان بيته خاليا ليس فيه غير مصحف وابريق وحصير ويقول هلك أصحاب الاثقال. ولم يكن هذا التبرؤ من متاع الدنيا الا اجابة لدعائه , فقد كان يتضرع الى ربه قائلا : اللهم لا تدخل بيت مالك بن دينار من الدنيا شيئا .
ولقد كان امر الاخرة هو الشغل الشاغل لسيدي مالك . فقد كان يقوم في محرابه ويقول : يا رب قد عرفت ساكن الجنة وساكن النار ففي اي الدارين مالك ؟ ثم يبكي.
يقول الامام الإمام الشعراني رحمه الله:  لولا اخشى ان تكون بدعة لأمرت اني اذا مت ان أُغل فادفع الى ربي مغلولا كما يدفع العبد الآبق الى مولاه . وكانت عباداته في جوف الليل سرا بينه وبين مولاه يناجيه بقلبه ومشاعره ويسر اليه بنجواه .
وروى ابو نعيم عن المغيرة بن حبيب قال : يموت مالك ابن دينار وانا معه في الدار لا ادري ما عمله – قال- فصليت معه العشاء الاخرة ثم جئت فلبست قطيفة في اطول ما يكون الليل – قال – وجاء مالك فقرب رغيفه فاكل ثم قام الى اخر الصلاة فاستفتح ثم اخذ بلحيته فجعل يقول : اذا جمعت الاولين والاخرين فحرم شيبة مالك بن دينار على النار , فو الله ما زال كذلك حتى غلبتني عيني ثم انتبهت فاذا هو على تلك الحال يقدم رجلا ويؤخر رجلا ويقول يا رب اذا جمعت الاولين والاخرين فحرم شيبة مالك بن دينار على النار فما زال كذلك حتى طلع الفجر .

 وسمعه بعض اصحابه يوما وهو يقول : لو استطعت ان لا انام لم انم مخافة ان ينزل العذاب وانا نائم ولو وجدت اعوانا لفرقتهم ينادون في سائر الدنيا كلها يا ايها الناس .. النار … النار …
رؤي في النوم بعد وفاته فقيل له: ماذا قدمت به على الله؟ قال: قدمت بذنوب كثيرة محاها حسن الظن بالله تعالى. وحسن الظن بالله تعالى هو قمة الرجاء.
قال الامام أبوطالب المكي: وحكى عن مالك ابن دينار – وهو مما يليق بهذا الفصل – قال خرجت من البصرة اريد الحج الى بيت الله الحرام فلما بلغت مكة استحليت الطواف ذات ليلة. فبينما انا اطوف بالكعبة وانا متلذذ بحلاة الخلوة رأيت جارية تطوف أمامي وهي تقول: سيدي ومولاي: بسكري البارحة وخماري الساعة الا غفرت لي. فقلت: يا جارية ما هذا الكلام في مثل هذا المقام؟ فقالت: يا مالك ما قلت الا ما يليق بحالي، وهذه كلمة تصلح لي ولا تصلح لك. فقلت : واعجباه كانت المسألة واحدة فصارت اثنتين اخبريني كيف عرف اني مالك بن دينار؟ وكيف صلحت الكلمة لك ولم تصلح لي.
فقالت: اما معرفتي بك فان روحي وروحك التقيا تحت عرش الجبار، فشم روحي روحك فعرفتك حين رأيتك، واما قولي ان هذه كلمة تصلح لي ولا تصلح لك فذاك لأني أحب الله وانت تريد الله فما أبعد ما بينهما.


وثمة واقعة اخرى لسيدي مالك مع أحد المحبين الالهيين يرويها عنه الامام المناوي رحمه الله. يقول: حبس المطر فاستسقينا مرارا فلم نسق فانصرف الناس وبقيت بالمصلى فلما أظلم الليل إذا انا بأسود. دقيق الساقين عظيم البطن فصلى ثم رفع طرفه الى السماء فقال : سيدي : الى كم ترد عبادك فيما لاينقصك ؟ انفد ما عندك . أقسمت عليك بحبك لي الا سقيتنا الساعة فما تم كلامه حتى أمطرت كأفواه القرب فخرجنا نخوض فتعرضت له.
فقلت: أما تستحي، تقول بحبك لي؟ وما يدريك انه يحبك؟

قال : يا من اشتغل عنه بنفسه؟ اين كنت انا حين خصني بتوحيده ومعرفته؟ أتراه بدأني بذلك الا لمحبته لي ؟ ثم بادر يسعى.
فقلت: أرفق ..
فقال: انا مملوك على طاعة مالكي الصغير، فسالت عن مالكه، فقلت: بعنيه. فقال : هذا غلام مشئوم لا همة له الا البكاء . قلت : ولذا اريده فاشتريته. فقال : لماذا اشتريتني فقلت لأخدمك. فدخل مسجدا فصلى، وقال هذا سر كان بيني وبينك اظهرته لمخلوق، أقسمت عليك الا قبضتني فاذا هو ميت.
لقد كانت تلك الوقائع تعمق في قلب سيدي مالك مشاعر التعلق بالله وتفرغ فيه من دنان المحبة كئوسا مثملات، وظل ينهل من تلك الدنان المعتقة حتى ارتوى وغمر شعاعها قلبه وانزاحت الاستار وتكشفت له الحقائق العلوية التي لا تنجلي الا للصفوة وصار ينعم في الحياة بأحلى ما في الحياة وهو معرفة الله تعالى.
استمع اليه وهو يقول: خرج أهل الدنيا من الدنيا ولم يذوقوا اطيب شيء فيها. قالوا: وما هو يا ابا يحيى؟
قال: معرفة الله تعالى.
روى عنه سيدي ابوطالب المكي   انه قال: ان في الدنيا جنة من وجدها لم يشتق معها شيئا. قيل وما هي؟
قال: معرفة الله.
روى الامام ابو نعيم في الحلية بسنده عن سيدي مالك قال: أتينا أنس بن مالك – صفو كل قبيلة – انا وثابت البناني ويزيد الرقاشي وزياد النميري واشباهنا فنظر الينا فقال: ما اشبهكم بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. ثم قال: رؤوسكم ولحاكم، ثم قال: والله لأنتم أحب الي من عدة ولدي الا ان يكونوا في الفضل مثلكم، واني لأدعو لكم بالأسحار.
هنيئا لك يا سيدي مالك حظيت بصحبة سيدنا انس بن مالك صحابي سيدنا رسول الله  وحظيت بحبه كولده وبدعائه لك في الاسحار، اللهم انا لم نحظ بشرف صحبة هؤلاء الاخيار فألحقنا بهم بحبنا لهم واجعلنا من السائرين على دربهم بحق حبك لهم فإنك أكرم الاكرمين.
ومن حكمه المضيئة: كان الابرار يتواصون بثلاث: بسجن اللسان، وكثرة الاستغفار، والعزلة

 ولان الحكمة ثمينة لا يعرفها الا اهلها , فقد نعى سيدي مالك على المعرضين عن الحق وصور حالهم قائلا : يا هؤلاء : ان الكلب اذا طرح عليه الذهب والفضة لم يعرفها واذا طرح اليه العظم أكب عليه كذلك سفهاؤكم  لا يعرفون الحق.  وحقا ما قال فلقد مني الحق في كل زمان بالسفهاء كما مني الاولياء بمن ينكرون عليهم ويناصبون التصوف – وهو قمة الروحية الاسلامية – العداء ولكن وليهم الله ورسوله فلا يبالون بعنت المحجوبين .
يروي العارف المناوي ان سيدي مالكا دخل لص داره فما وجد شيئا يسرقه , فجاء ليخرج ومالك ينظره , فقال : سلام عليك , اعلم ان شيئا من الدنيا ما حصل لك فترغب في شيء من الاخرة ؟
قال نعم . قال توضأ وصل , ففعل الى الصبح فخرج به مالك الى المسجد , فقال اصحابه : من هذا؟ قال : هذا جاء يسرق فسرقناه . ومن الوقائع اللطيفة ان سيدي مالكا سرق له مصحف . فوعظ اصحابه فجعلوا يبكون فقال : كلنا نبكي فمن سرق المصحف ؟
وكان من دعائه : انت اصلحت الصالحين , فاجعلنا صالحين حتى نكون صالحين … وكان يبشر اصحابه ومن على شاكلتهم من الاخيار قائلا : عرس المتقين يوم القيامة

ومن مناقبه وكراماته  ما رواه ابن خلكان عن ابي القاسم ابن بشكوال حيث قال في كتابه – المستغيثين بالله تعالى-: بينما مالك ابن دينار يوما جالس إذ جاءه رجل فقال يا ابا يحيى: ادع الله لامرأة حبلى منذ أربع سنين فقد اصبحت في كرب شديد، فغضب مالك وأطبق المصحف ثم قال: ما يرى هؤلاء القوم إلا اننا انبياء ثم قرأ ثم دعا فقال: اللهم هذه المرأة ان كان في بطنها جارية فابدلها بها غلاما فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك ام الكتاب.  ثم رفع مالك يده ورفع الناس ايديهم وجاء الرسول الى الرجل وقال أدرك امراتك فذهب الرجل فما حط مالك يده حتى طلع الرجل من باب المسجد وعلى رقبته غلام جعد قطط ابن أربع سنين. رضي الله عنك يا سيدي مالك ورضي عنا بك وحشرنا معكم وجعلنا من السائرين على دربكم المقتفين اثركم الشريف بجاه سيد الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه و على اله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. وسلام عليكم في العالمين وتحية منا اليكم الى يوم الدين.
  بحار الولاية المحمدية في مناقب أعلام الصوفية.

الاخبار العاجلة
error: Content is protected !!